وسط مدينة حماة ( ساحة العاصي ) سنة 1937م
لو قـيّض لـ (هيرودوت) رحّالـة اليونان الشّهير أن ينهَـضَ من رِمسِه ، و يعـاوِد تطوافـَه بساحةِ عاصي حمـاة ، بعدَما مضى و انقضى من الزّمن ألفا سنةٍ و خمسمئة على مرورِه الأوّلــ بهـا ، و تنقـّله بين مساحاتِ خضـرتها و ملاعبِ صِبـَاها … لفغـَر فـاهُ من الدّهشة ، و صـرخَ بأعلى صوته قائـلاً :
هذه هي حمـاةُ التي جِلتُ بواديـها البارحَـة .. كأنّهـا لم تتغيّـر البتـّة .
ساورني هذا الخاطر بينما كانت أقدامي تجـدّ السّيرَ حثيـثةَ الخُطـا في ساحـَة العاصي .. واسطـة عقـد المدينة و واجهتهـا الأماميّة الخافقـة ليلَ نهـار بنبـضِ العَـابرين و الزوّار .. صاعـداً بمسيري إلى تلّة الدبّاغـة .
فسّاحة عاصينـا الشّهيرة ما زالت كعهـدي بها مُـذْ توثّقت بيني و بينهـا أواصرُ المودّة في أوّل لقـاءٍ ضمّنـي و إيـّاها .. لم تتغيّر ملامحُهـا ، أو تتبـدّلْ معالمُهـا إلاّ قليـلاً ، و مازالت على السكّة ذاتها التي أقلـّتني عرباتهـا إلى محطّات متعـدّدة و مواقف مختلفـة في مدارجِ العمـر نضّـاحةٍ بتفـاصيل ريّـانةٍ بالغـزارةِ و العـذوبة ، حينما كنت ألجـأ إليهـا إمّا عابـراً فوق جسر شفيق العبيسي ، أو مُختـَزلاً الطريقَ المـارّ من خلفيّة الساحةِ عبـرَ بستانِ أمّ الحسن التي لم تلفحْهـَا أيضـاً كشقيقتِها الأماميّـة رياحُ التحسين و التزييـن ، حتّى أضحت مع مرورِ الزّمـن بقـايا أطـلالٍ لتلك الـ (جنّـة على نهر العاصي) ، التي راودَت ابنَ جبيـر و ابن بطّـوطة و موريسَ بـارِسّ و مونمَـارشيه و الكثيرينَ من عشّاقها عن أنفسِهم ، و شرّعتِ الأبوابَ ، فلمـّا جاسوا في مغانيهـا اعتراهـم الذّهـولُ ، و أسرهـم نفـحُ الطـّيب العابـقُ من خوابي واديهـا الرّطيب .. أيّام كانت حمـاةُ بأكملـها بستانـاً مزركشةً بصنـوفِ الأشجَـار و الأزهـار و الأطيـار .
بيـدَ أنّ واقـعَ أمّ الحسن اليـومَ مختلف جدّاً ، إذْ أضنـَاها الإهمـال ، و أقضّ مضجَعَـها سوءُ الأحـوال .. إنْ على صعيد الخُضرة و النّضـرة ، أم على مستوى نوعيّةِ (الكثيرينَ) من روّادها المعجونـة سلوكيّـاتُهم بمـا لا يُحمَـد عُقبـاه من أوحـالِ الإسفـاف و الإنحـدار .
و ممّا زادَ في طّنبـور السّاحـة نغمـاً تلك الروائحُ النتـنة المنبعثـةُ من سريرِ النّهر الثـّاكل بالجفَـاف و روافـدِه التي ما انفكّت تلفـظ من أشـداقِ مجاريهـا أكداساً ضخمـةً من القاذورات و الفضَـلات .
و حتّى لا نعلّق الارتكاسَ المتـَراكمَ على مِشجب الأزمـات و النّكسـات كدأبنَـا الأزليّ في التعليقِ و التبـرير .. فساحـةُ العاصيّ بكلّ أرجائهـا و أبهائِهـا ، و ما يزيّن طلعـتها من حجَـرٍ و شجـَرٍ و مجرى نهـرٍ .. لم تحـظَ بما يليق بموقعهـا كشـامةٍ خضـراء على خـَدّ سلطانة المـُدن .. من زِمَـام الاهتمـَام مقـارنةً بما طـرَأَ على المدينـة من مـدّ عمرانيّ حديث ، و ما رصّع قسَمَـاتِ أحيائهـا القديمـةِ من تجميـلٍ و تكحيلٍ و تأهيـل .
يتبــــــع ….
بقلم الأستاذ الفاضل : عمر فارس يونس