ساحة العاصي في حماة | بقلم الأستاذ عمر فارس يونس ج2

قصر الأرناؤوط

و ذاتَ مرّةٍ خطـفَ أحـدُ (ولاة الأمـر) ألبـابنا انبهـاراً بمّا كانَ يجول في خـاطره من رؤى حيويّة و آفـاق استثمـاريّة خلنـاها دانيـةَ القطوفِ و يانعـةَ الثّمـار .. كـان لساحة العاصي منهـا /على الورق/ النصيبُ الأكبـر و الحـظّ الأوفـر .. بـدءَاً من قصر الأرنـاؤوط (السجن القديم) الذي كان مزمعَـاً تعهيـده لمستثمرٍ قادرٍ على توظيف نسيجه الأثريّ في قالَب فُنـدقٍ راقٍ و مطعـمٍ عملاق تزهـو كتفـاه بعديـد النّجـُوم ،  مروراً بمجرى العاصي الذي كان مؤمـّلاً تعميـرُه بالميـاه الصّافيـةِ على مـدار الفصـول ضمن حلقـةٍ دورانيّـة دائمـة الجرَيان تُلبي لهفـةَ نواعيره و توقـَها الأزليّ لاستمرارِ دورانها و بقـاء شدوها صدّاحـاً صيفَ شتـاءَ .

جسر-الكيلانية-.

و انتهـاءً بالواجهة النهريّة المتاخمَة لجامع النّوري .. التي أقيم لها نُصُب و وُضـِعَ حجرُ أساس في مدخـل جسر الشـّيخ ، و ظهرت مخطّـطات ، ما لبثت أن توارت تحت جنح الظـّلام عن الأنظـار ، و انقطـعَ دابرُ الحديث عنهـا دون سابق إعـلامٍ أو إنـذار !!.. كانت كفيلةً لو أنجـزِت بأن يكتمـلَ بـدرُ الرّوعـة و تأتلقَ حاضرةُ أبي الفـداء بفسيفساءِ الخُضرة و البنيـان ، و يرتفعَ عديـدُ قاصديها من الزوّار و السّائحين كمـَلاذٍ سيـاحيّ بديـع ، و مرتعٍ خِصـبٍ لأصحـَاب الذّوق الرّفيـع   … لكنّ كثيراً من تلك المطـامحِ لم يحالفـها التوفيق و التحقيـق خـلا توسعـةَ جسر (السّرايـا) .. وكم كنـّا في شوقٍ و تـوق/إن أوفى بما وعـدَ/ لأنَ نشُـدّ على أياديـه ، و نشكرَ طيبَ مَساعيـه .

ساحة العاصي في حماة

و لساحة العاصي في صفـحات وجداننـا الشعبيّ صولاتٌ و جولات و كلّ زاوية منها هي عقدة مواصلات لآلاف الدروب المفضيـة إلى ساحاتِ الشـّجن و باحـَات الذّكريات .. أستحضرُ منها عبرَ آلة الزّمـن اللّوحتين الآتيتين :
* تقلّنـا الأولى في قُمرتهـا (الفردوسيّة) إلى أفيـاءِ الأعيـاد … و العيـدُ في تلكَ الآونَـةِ فـرحٌ غامر و بهـجةٌ لا ضفـافَ لها ، و عيديّات ما إن تحُـطّ رحالَهـا في الجيـوب المتصحّرة حتى تنسَـلّ لاهثـةً .. مأخـوذةً بحلويّات سلّورة ، و فلافـل الشّيـخ ، و كازوز الـ (ستيم) … و بلوحـات أفـلام العيـد العِمـلاقة التي ما إن يتراءَى طيفُهـا قبـالةَ أنظـارِنا المصوّبـة إليها من فوقِ تخـوم جسر (السّرايا) ، و هي معلـّقة على أبواب صـالاتِ السّينما ، و على جـدران المحـلاّت المتـاخمة لهـا حتّى تطيرَ نفوسُنا شـُعاعاً ، و تخفـقَ قلوبنـا ابتهـاجاً ، فنستحـثّ أقدامنـا لالتهـام مسافة الجسر على عجـل كي نلحقَ بأسرابِ أقرانِنـا المنسابةِ زُرافـاتٍ و وِحـدانا فوق السّاحـة المنتهيـَة بإحدى صالات العرض الغـابرة ، علـّنا نتخطـّاهم ، فيظفر أحدُنـا بكرسيّ وسطَ الزّحـام الكثيفِ (حـذرَ الوقـوف) ، و يطفئ جذوة شوقـه بأحـداث فيـلمٍ من أفلام هاتيـك الأيّـام الرّائجـةِ .. المائجـة ببطولات هِرَقـل و مغامرات علي بـابا و عـلاء الدّين و فروسيّة عنتـرة … إلخ .

حي الدباغة
و تصحبنـا الثانيـة إلى سوق الكتب المدرسيّة الذي كان شملُـه غاليـاً ما يلتئـم فوق الجسر المقـابل لمقصفِ الغزالـة .. و مازلت أذكـرُ هذا السّوقَ الموسميّ آخرَ الصيف و هو يموج بالصّخَب و اللّغب ، و يعـجّ بأمواج جمهوره الغفيـر من طلاّب المدارس الإعداديّة و الثـّانويّة الذين كانوا يتقـاطرون إليـه بعد انفضاضِ ثائرة الحـرّ عصراً ، ورغمَ ارتفـاعِ أصوات المُنصرفين من دور السّينما مالئة الدنيـا و شاغلة النّاس ، و أصوات الباعـةِ المقيمينَ والمتجـوّلين .. فإن ضجيـجَ مرتاديـه من بائعين و شارين كان يعـلو عمّا سواه ، و يُشعلُ في أكنـاف السّوق هديراً دافقـاً بالحيويّة و النّشاط … و لعلّ أكثرَ ما ميّـز هذه اللوحة عن أترابهـا ، و أضفى على أجزائهـا ألوانـاً شجيـّة و ظـلالاً شعبيّة قريبـةَ الشّبه بمثيلاتهـا من لوحـات البيـع و الشّراء في سوقي الخميس و الجمعـة هو وجـودُ عـددٍ من مكتبـات الأرصفـة التي كانت تُشاطئ أطرافـَها حينـَاً ، أو تتـداخل معـها لتحتـلّ طرفـاً من قلبِ ساحتـها في أغلبِ الأحـايين ، مغتنمـةً فرصـة موسمـه الحـافل بالسّابلة و النّـابلة لتعرضَ أصنافَ كتبِـها و أنواعَ مجـلاّتها .. كبَسطات (أبو معن الفرّان و ديب الحنبظلي و أبو كمـال الحمصي)  ، و لقـد رنـّقَ هذا السّوق و زانـَه طـقسٌ محبـوب له مكانتـهُ الأثيـرةُ فوق أرائك القـلوب ، كانت تحييـه عربـةُ فلافـل (الشيخ) الرّابضةُ كجزيـرةِ أحـلام وسط محيـطٍ زاخـرٍ بروّادهـا الكثيرين لصـقَ الرّصيفِ الصّـاعد إلى مقهى المأموريّة .

بقلم الأستاذ الفاضل : عمر فارس يونس

هذا المنشور نشر في مقالات عن مدينة حماة وكلماته الدلالية , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.